فصل: تفسير الآيات (17- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 18):

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليس هم مستبدين بالقتل، لأن القتل بالإقدار عليه، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم مما فعل، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية، وقوله: {وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى} يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية، ويروى أنه قال يوم بدر: شاهت الوجوه، وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم حنين بلا خلاف، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث.
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} ما قلناه في قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} وذلك منصوص في الطبري وغيره، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت، ونحوه قول العباس بن مرداس: [المتقارب]
فلم أعط شيئاً ولم أمنعِ

أي لن أعط شيئاً مرضياً ويحتمل أن يريد، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك، ولكن الله رماه وهذا أيضاً منصوص في المهدوي وغيره، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك، والعرب تقول في الدعاء: رمى الله لك، أي أعانك وصنع لك.
وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة {ولكنّ الله رمى} بتشديد النون، وفرقة {ولكنْ اللهُ} بتخفيفها ورفع الهاء من {الله} {وليبلي} أي ليصيبهم ببلاء حسن، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء، وغيرهم، {إن الله سميع} لاستغاثتكم، {عليم} بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو، وحكى الطبري: أن المراد بقوله: {وما رميت إذ رميت} رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد، وحكي أيضاً أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه، وهذا فاسد، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا، فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه، وقوله: {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم، وموضع {ذلكم} من الإعراب رفع، قال سيبويه: التقدير الأمر ذلكم، وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم {وأن} معطوف على {ذلكم} ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا، وقرأت فرقة {وإن} بكسر الهمزة على القطع والاسئناف، و{موهن} معناه مضعف مبطل، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد، ويقال وهن مثل ولي يلي، وقرئ: {فما وهنوا لما أصابهم} [آل عمران: 146] بكسر الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {موهن كيد} من أوهن، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {موهن كيد} من وهن، وقرأ حفص عن عاصم {موهن كيدِ} بكسر الدال والإضافة، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث، وزاد {موهّن كيد} بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة.

.تفسير الآيات (19- 21):

{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
قال بعض المتأولين: هذه الآية مخاطبة للمؤمنين الحاضرين بوم بدر، قال الله لهم: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} وهو الحكم بينكم وبين الكافرين فقد جاءكم، وقد حكم الله لكم، {وإن تنتهوا} عما فعلتم من الكلام في أمر الغنائم وما شجر بينكم فيها وعن تفاخركم بأفعالكم من قتل وغيره فهو خير لكم {وإن تعودوا} لهذه الأفعال نعد لتوبيخكم، ثم أعلمهم أن الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله تعالى ومعونته، ثم أنسهم بقوله وإيجابه، أنه مع المؤمنين، وقال أكثر المتأولين: هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة، وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش، ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأهلكه واجعله المغلوب، يريد محمداً صلى الله عليه وسلم وإياهم، وروي أن قريشاً لما عزموا على الخروج إلى حماية العير تعلقوا بأستار الكعبة واستفتحوا، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأظهر خير الدينين عندك، اللهم أقطعنا للرحم فاحنه الغداة، ونحو هذا فقال لهم الله، إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا توبيخ، ثم قال لهم {وإن تنتهوا} عن كفركم وغيكم {فهو خير لكم} ثم أخبرهم أنهم إن عادوا للاستفتاح عاد بمثل الوقعة يوم بدر عليهم، ثم أعلمهم أن فئتهم لا تعني شيئاً وإن كانت كثيرة، ثم أعلمهم أنه مع المؤمنين.
وقالت فرقة من المتأولين: قوله: {وإن تستفتحوا فقد جائكم الفتح}، هي مخاطبة للمؤمنين، وسائر الآية مخاطبة للمشركين، كأنه قال وأنتم إن تنتهوا فهو خير لكم، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وأبي عمرو وحمزة والكسائي {وإن الله} بكسر الهمزة على القطع، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص {وأن} بفتح الألف، فإما أن يكون في موضع رفع على خبر ابتداء محتمل المعنى، وفي قراءة ابن مسعود: {ولو كثرت والله مع المؤمنين}. وهذا يقوي قراءة من كسر الألف، من {إن} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله} الآية، الخطاب للمؤمنين المصدقين، جدد عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهوا عن التولي عنه، وهذا قول الجمهور، ويكون هذا متناصراً مع قول من يقول: إن الخطاب بقوله: {وإن تنتهوا} هو للمؤمنين، فيجيء الكلام من نمط واحد في معناه، وأما على قول من يقول إن المخاطبة ب {إن تنتهوا} هي للكفار فيرى أن هذه الآية إنما نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وكراهيتهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم، وقالت فرقة: الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً لأجل أن الله وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان، والإيمان التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء، وقيل إن بالفعل المستقبل فحذفت الواحدة، والمحذوفة هي تاء تفعل، والباقية هي تاء العلامة، لأن الحاجة إليها هنا أمس ليبقى الفعل مستقبلاً، وقوله: {وأنتم تسمعون} يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ والآيات، وقوله: {كالذين قالوا} يريد الكفار، فإما من قريش لقولهم {سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 8] وإما الكفار على الإطلاق الذين يقولون سمعنا القرآن وعلمنا أنه سحر أو شعر وأساطير بحسب اختلافهم، ثم أخبر الله عنهم خبراً نفى به أنهم سمعوا أي فهمو ووعوا، لأنه لا خلاف أنهم كانوا يسمعون التلاوة بآذانهم ولكن صدورهم مطبقة لم يشرحها الله عز وجل لتلقي معاني القرآن والإيمان به.

.تفسير الآيات (22- 24):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
المقصود بهذه الآية أن يبين أن هذه الصنيفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله عز وجل، وأنها أخس المنازل لديه، عبر ب {الدواب} ليتأكد ذمهم وليفضل عليهم الكلب العقور والخنزير ونحوهما من السبع، والخمس الفواسق وغيرها، و{الدواب} كل ما دب فهو جميع الحيوان بجملته، وقوله: {الصم البكم} عبارة عما في قلوبهم وقلة انشراح صدورهم وإدراك عقولهم، فلذلك وصفهم بالصم والبكم وسلب العقل، وروي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني الدار وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف، ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال {ولو أسمعهم} أي ولو أفهمهم {لتولوا} بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: المعنيّ بهذه الآية المنافقون، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} الآية، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، و{استجيبوا} بمعنى أجيبوا، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر: [الطويل]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا ** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب

وقوله: {لما يحييكم} قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام، وقيل {لما يحييكم} معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة، وقال النقاش: المراد إذا دعاكم للشهادة.
قال القاضي أبو محمد: فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة، وقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} يحتمل وجوهاً، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه} بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله: {وأنه إليه تحشرون}، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر، ومنها أن يقصد بقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه.
قال القاضي أبو محمد: فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16]، حكي هذا التأويل عن قتادة، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله، وقال المفسرون في ذلك أقوالاً هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا، وقرأ ابن أبي إسحاق {بين المِرء} بكسر الميم ذكره أبو حاتم، قال أبو الفتح: وقرأ الحسن والزبيدي {بين المَرِّ} بفتح الميم وشد الراء المكسورة، و{تحشرون} أي تبعثون يوم القيامة، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما سمعت فيما يوحى إلي {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فقال أبيّ: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق.

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
هذه الآية تحتمل تأويلات، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه، فإنه قال يوم الجمل وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت، وكذلك تأول الحسن البصري، فإنه قال: هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير، وكذلك تأول ابن عباس، فإنه قال: أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء قوله: {لا تصيبن} على هذا التأويل صفة ل {فتنة}، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج: زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي، قال ومثله قوله تعالى: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم} [النمل: 18] فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن، وقال قوم: هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون، وقال المهدوي: وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في القول تكره، لأن جواب القسم إذا دخلته لا أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله: {واتقوا فتنة} خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول.
والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك هاهنا يريدون لا تقم هاهنا فتقع مني رؤيتك، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم، نحا إليه، الزجّاج، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء، ونهي الظلمة هاهنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط، و{خاصة} نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في {تصيبن} وهذا الفعل هو العامل، ويحتمل أن تكون {خاصة} حالاً من الضمير في {ظلموا} ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز {لتصيبن} باللام على جواب قسم، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط، قال أبو الفتح: يحتمل أن يراد بهذه القراءة {لا تصيبن} فحذف الألف من لا تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة، {لا تصيبن} فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تنطع في التحميل وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ {واتقوا فتنة أن تصيب} وقوله: {واعلموا أن الله شديد العقاب} وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة.
وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله: {لا تصيبن} هي على معنى الدعاء ذكره الزهراوي وقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} الآية، هذه آية تتضمن تعديد نعم الله على المؤمنين، و{إذ} ظرف لمعمول {واذكروا}، تقديره واذكروا حالكم الكائنة أو الثابتة إذ أنتم قليل، ولا يجوز أن تكون {إذ} ظرفاً للذكر وإنما يعمل الذكر في {إذ} لو قدرناها مفعولة، واختلف الناس في الحال المشار إليها بهذه الآية، فقالت فرقة هي الأكثر: هي حال مكة في وقت بداءة الإسلام، والناس الذين يخاف {تخطفهم} كفار مكة، والمأوى على هذا التأويل المدينة والأنصار، والتأييد بالنصر وقعة بدر وما أنجز معها في وقتها، و{الطيبات} الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالت فرقة: الحال المشار إليها هي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر، والناس الذي يخاف تخطفهم على هذا عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوف من بعضهم، والمأوى على هذا والتأييد بالنصر هو الإمداد بالملائكة والتغليب على العدو، و{الطيبات} الغنيمة.
قال القاضي أبو محمد: وهذان قولان يناسبان وقت نزول الآية لأنها نزلت عقب بدر، وقال وهب بن منبه وقتادة: الحال المشار إليها هي حال العرب قاطبة، فإنها كانت أعرى الناس أجساماً وأجوعهم بطوناً وأقلهم حالاً ونعماً، والناس الذين يخاف تخطفهم على هذا التأويل فارس والروم، والمأوى على هذا هو النبوءة والشريعة، والتأييد بالنصر هو فتح البلاد وغلبة الملوك، و{الطيبات} هي نعم المآكل والمشارب والملابس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب في هذه الآية في آخر زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن تمثل أحد بهذه الآية لحالة العرب فتمثله صحيح، وأما أن تكون حالة العرب هي سبب الآية فبعيد لما ذكرناه، وقوله: {لعلكم تشكرون} ترج بحسب البشر متعلق بقوله: {واذكروا}.